في إحدى مقالاته يتحدث حسني فريز عن ثقافة الناس إبان العهد العثماني، حيث كان الناس في الأردن يقرأون القران الكريم، الذي كان يشكل ثقافتهم الدينية، ثم القصص الشعبي، من مثل: الهلالية وعنترة وعلى الزبيق والزير سالم والظاهر بيبرس والملك سيف، التي كانت تشكل لديهم ثقافة المقاومة وتغرس فيهم روح الشجاعة وقوة الاحتمال والثقة بالنفس والتفاؤل بالنصر… وكان الناس يقرأونها فرادى وجماعات، وكانوا يستمعون للقارئ، وهم في غاية المسرة والشوق.
ويقول: لما كنت يافعاً لم يكن في السلط مكتبات. ولكن كان للمؤذن الحاج شريف السختيان، رحمه الله، دكان صغيره ملاصقة لباب المسجد الكبير، وكانت تحتوي بعض القصص والكتب. وقد اشتريت منه مرة أو أكثر، فأصبح بإمكاني بعدها أن أقرأ. وكان في السلط رواة للشعر البدوي. ولكن المدينة كانت تحتفي بالشعراء البدو القادمين إلى المدينة. فكانوا يدعون الى المضافات ويحيون الليالي عند أهل الوجاهة في الدواوين أو في الكروم. وكانت الدواوين بالمضافات مدارس لليافعين والشباب، يتعلمون فيها شؤون الحياة الزراعية والواجبات والحقوق والمراسيم الأعراس والمآتم، ويتعلمون كيف يستمعون، وكيف ومتى يتكلمون، ويحفظون القصص والأشعار والأمثال والحكم وما يجري فيها من أحاديث. وهذه تسمى (مقاعيد الرجال) وبذلك كان الفتيان يتعلمون بالقدوة.
وكان حسني فريز شاهد عيان وهو يتحدث في مقالاته وقصصه ورواياته عن فترة الحكم التركي؛ فيروي بعض مشاهد معاناة الناس وفقرهم وحاجتهم الى رغيف الخبز، وأن العسكر الذي كانوا في المدينة هم من الأتراك والألمان، وكانت الفئتان تختلفان في طريق المعيشة والمأكل والملبس، فالمطبخ الألماني كان يعرف البطاطا واللحوم والفاصولياء الناشفة، ويعطى الجندي البسكويت والسكر والقهوة، في حين أن المطبخ التركي لا يخرج عن حساء العدس. وكانوا يقولون إنَّ السباح الماهر لا يكاد يظهر بحبة عدس واحدة، فإذا تنوعت الوجبة كانت البرغل أو الحساء.
ويقول: عرفنا الجوع والمرض والقمل، ولم يكن ثمة مضادات. ثم أحسسنا بالفرح بالثورة العربية الكبرى وغنينا أغانيها. ويذكر أن السلطات التركية جعلت من دير اللاتين في السلط مخزناً أو عنبراً للأرزق. فكان الناس يقولون أنهم شاهدوا الحبوب والزيتون والزبيب والقمر الدين والملح والدبس والبرغل وما لا أدري.
ويذكر أن الخبز كان رخيصاً ولكن النقود غالية، وكانت ( اكوارة) القمح محاطة بهالة من الأسرار. وكانت السخرة في أواخر عهد الدولة، علامة بارزة، والعسكر متعبون وقد تفشى فيهم المرض. والخبز قليل جداً وفيه شعير وهو أسود مملوء بالتبن، لا يغربل ولا يطحن جيداً ولا ينخّل. والفارون من الخدمة تتعقبهم الحكومة وتقتل من باع بندقية أو زوَّر مأذونية، أو لأنه فرّ، أو لأنه عربي.
ولكن حسني فريز يذكر فضل السلطة التركية على الوحدة العربية، فيذكر: اننا في زمن الأتراك لم نكن نعرف أن الدمشقي سوري، وأن النابلسي فلسطيني، وأن السلطي أردني، كما هو الحال الآن. ولم نكن قبيل قيام الثورة العربية الكبرى نعلم أننا عرب. لقد كنا ننشد كل صباح أما مدارسنا، وأمام الحاكم. لا اكراد، لا أتراك، لا عرب. .. لكنّنا عثمانيون.
وعندما يتحدث عن التعليم نراه يذكر كيف كان التلاميذ يكرهون المعلم والكتب ومبنى المدرسة والحي الذي تقوم فيه. ويتساءل لماذا؟ فيجيب لأنهم يعطوننا دروساً لأنفسهم، ويعاقبوننا عليها بالضرب. والدروس صعبة والمدرس لا يعرفها. وكان للتلاميذ اعتزاز واضح بالعرب والعروبة ويقول: لما كنت في الصف الثاني الابتدائي خرج تلاميذ المدرسة الأولية والأساتذة للتنزه.
وعندما بدأنا السير كنا ننشد:
لغة العرب اذكرينا واندبي ما فات
كيف ننساك وفينا نسمات الحياه
وعندما تواردت أخبار الثورة العربية، يقول حسني فريز، وخرج العثمانيون من البلاد، أخذ الشعب يغني للأمير فيصل الأغنية المشهورة.
أمسى عليك الخير يا بو غازي
يا زينة العربان، أمان أمان أمان
يقول حسني فريز: في ذلك الوقت اكتشفت انني لست عثمانياً، بل أنا عربي. وأن أقاربي وغيرهم قد فروا من الجيش التركي والتحقوا بالثورة.
كانت الكتاتيب و المدارس قليلة في ذلك العهد والأمية شائعة. وكان الناس يدركون أهمية القراءة والكتابة، حتى إن الأهلين كانوا يأخذون الولد الى المدرسة ويقولون للمدير: الك اللحم والنا العظم. وكان الأمير عبدالله الأول يزور بعض المدارس المجاورة للقصر الأميري، كذلك رئيس الوزراء رضا باشا الركابي.
وكان المعلم يضرب التلاميذ على الكفين، و القدمين، ومرة أخرى على الاثنين. وكان حسني فريز يعتبر أن الضرب مهين فوق أنه مؤلم. ثم يتحدث عن معلم الكتاب الذي يرتدي لباس الشيوخ المعميين يعلم فيه القران والحساب. ويقول: وشيوخ الكتاب لا يكادون يقرأون القرآن، ولا يعرفون إلا أبسط البسيط مما كانوا يعلمّونه.
وحياة هؤلاء المعلمين نكدة، يعيشون على أجور التعليم، وتكون نقداً أو عيناً. كأن يحمل التلميذ يوم الخميس رغيفاً من الخبز للمعلم أو عود حطب في الشتاء، يدعون إلى الولائم حين يتفق لهم، أو يسمعون بالوليمة فيدعون أنفسهم إليها. وأما المعلمون الموظفون فإنهم ليسوا أحسن حالاً من مشايخ الكتاب، لا من حيث المعرفة ولا من حيث المردود المادي. ويقول حسني فريز: وأذكر أن أحدهم كان يرسل التلاميذ إلى زوجته ليساعدوها في تنقية القمح من الحصى. كما كان يطلب من التلاميذ هدايا عن طريق ولي أمره، وكان ولي لأمر يستجيب. ويذكر حسني فريز أنه أقيم في مدرسة السلط الثانوية احتفال لخريجي عان 1927، وشرف الاحتفال سمو الأمير عبدالله. ثم يتحدث عن نظام المراحل الدراسية، فيقول كان هناك أربعة صفوف ابتدائية، وأربعة صفوف رشدية، وكان المعلم أحياناً يجمع أكثر من صف في غرفة
واحدة. وكان المعلمون من سورية وفلسطين ولبنان، فرشيد بقدونس من سورية، ومحمود الكرمي من فلسطين وهاني ابو مصلح من لبنان وتيسير ظبيان من سورية، وهو دمشقي…. وغيرهم وكان التلاميذ يعلم بعضهم بعضًا ويجلسون على مقاعد من جلود الخرفان، فكان لكل تلميذ مقعد جلد، أو قطعة من زنابيل الأرز الذي كان يستورد من مصر.
ويتحدث عن الحالة الاجتماعية للناس وطبقاتهم، ويقول: رأيت عمي وأسرته متحلقين حول نار الحطب في وسط الغرفة الوحيدة في البستان، وكان اللهب يتصاعد ليضيء الغرفة. ويقارن بين الأمس واليوم فيقول: ونحن نأكل البرك والفطير. ولكن أين كل ذلك من الفطاير القديمة التي تسمى ( سنبوسك) وهي خبيز من قمح بلدي محشو بالحميض أو السبانخ المبتلين بالزيت والسماق، ثم تكون رغيفاً على شكل مثلث ثم تخبز بالصواني. ويؤكد: ان سنبوسكة واحدة تغني عن وجبة فيها اللذة والمسرة من الطعم والرائحة.
ثم إن خبز الطابون لا ينسى، فله رائحة بهية ولون بهي وطعم شهي. خبزنا الآن حسن المنظر، ولكنه في مختبر الفم كالغماس. ونرى الرغيف محشواً باللب، فجزء من الرغيف لا يؤكل في حين أن، رغيف الطابون يؤكل كله. ويبقى طرياً مدة يومين. في حين أن رغيف اليوم إذا برد ذهبت عنه رائحة الخبز وطعمه وتيبّس. وأين بندورة البساتين والجبال من بندورة البلاستيك ذات الكثيف. وأين خيار اليوم من خيار الأمس ذي اللون الأبيض، ذي الجلد الناعم، وفيه أحياناً بعض الشوك الذي يشبه الزغب، وكذلك الخس الذي كانت له لقومة… وأنا أفتقد روائح هذه الخضار.
ويتحدث عن طبقات الناس فيقول: كان في السلط فريقان: فريق الفلاحين، الذين يعملون في الأرض ويملكونها في الغالب، ومنهم أصحاب حوانيت ومتاجر بسيطة تبيع الأقمشة أو البقالة, من هؤلاء الفلاحين فئة تملك أرضاً، ويكون من هذه الفئة الحراثون، وبعض العمال في البناء. والفريق الآخر هم الناس الذين جاءوا من نابلس بخاصة. وهذا الفريق أقلية وكان عددهم حوالي أربع وثمانين عائلة. وكانت هذه الفئة ذات أهمية، فمنها أهل الحرف وأصحاب الحوانيت، منهم المستأجر، ومنهم من يملك الدكان. وهناك أقلية ضئيلة جاءت من دمشق، ومنهم جدي الذي أمَّ السلط بعد سنة 1860. والأقليتان: النابلسية والشامية يطلق عليها اسم ( المدينة) وتتألف من أسر، في حين أن الفلاحين يتألفون من الحمايل والعشائر. ومن اختار من الأقلية انضم الى عشيرة ويسمى ( لفوفة) أي أنه طارئ يلتف على العشيرة.
ويتتبع تاريخ بعض الصناعات، فيذكر أن الحبوب كانت أهم غلة الناس. وكان الصيف أقل حراره منه في أيامنا هذه 1979، وكان الندى يلطف الجو، ويغسل أوراق الأشجار. ومن الصناعات الشهيرة في السلط صناعة الأحذية من الجلود المحلية التي تدبغ محلياً، وكانوا يصنعون الحفايات والوطا وهي النسخة الأولى مما نسميه الآن ( البوط) أو الحذاء ذا الساق. وهذا كان للحراثين. وفي شكله- يقول حسني فريز – غلاظة. ولعله كان يوجد أكثر من مائة دكان تصنع الأحذية في سوق واحد على الصفين. وكان في السلط صناعة البسط والفخار وتكون في أحجام كثيرة، ومنها الأواني التي تشبه الطناجر.
والفلاحة هي السمة البارزة في المدينة، ذلك أن الذي يفلح الأرض، أجيراً كان أو مالكاً، يتصل بالطبيعة في فصول السنة الأربعة. فهو في الشتاء يبذر الحب، وفي الربيع ( يعشِّب) وفي الصيف يحصد ويذري ويجمع الحب. وفي الصيف كذلك موسم العنب والتين. وفي الخريف موسم الزيتون والمساطيح، أي عملية تحويل العنب إلى زبيب. وفي الصيف والخريف يقيم الأعراس وفي جميع الأحوال كانت الزوجة تعينه.
ثم يتحدث عن زوجته التي لم تكن محجبة، فهي تحدث الرجال وتجلس بينهم إذا تقدم بها السن، وتمضي إلى الحقل لاجتناء البقول أو لطحن القمح، وكانت أكثر واقعية من امرأة العامل أو صاحب الصنعة، وعلاقتها مع زوجها حسنة لأنها تساعده، ولأنها ابنة عشيرة. فإذا وقع عليها منه الضرب فإن عشريتها لا تسكت على تلك المذلة. ومن هنا قيل إن أحدهم يخشى أن يضرب زوجته، فتبدو الضربة على عضو من أعضائها. فإذا أراد الضرب، وكان لا بد منه، قال لها: ارفعي ابطك !!! ولماذا الإبط؟ لأنها تخشى أن تكشف عن ذلك أمام الرجال من ذويها.
ثم ينتقل حسني فريز الى الحديث عن زوجة العامل، فيقول: كان العامل يؤنب زوجته ويشتمها، وتمتد يده بالأذى دون أن يخشى الانتقام. إذ قد تكون من أسرة لا حول لها ولا قوة. ثم انها محجبة وتخشى إن تمردت أن تطلّق فتصبح عالة على أهلها. وهي أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولا تعرف إلا أن تكون خادمة.
ثم ينتقل فريز الى وصف حياة الفلاح الذي يأكل مما تنتجه أرضه وماشيته وبستانه. وإذا أراد ابتياع شيء من السوق، باع ما يفيض عن حاجته من الحبوب، ولا يبيع إلا مكرهاً، ولا يشتري إلا ما كان ضرورياً وما يملكه من الحبوب محسوب ولذلك قيل المثل: ” بيض معدود بجراب مربوط “. ولكنه في سنوات القحط يلجأ الى الاستدانة من التاجر نقداً لقاء مقدار معين من الحبوب أو السمن وهذا يسمى بالطلاع أو ( السلم) الشرعي. وهذا الطلاع أو السلم كان يؤدي بالمدين الى أن يبيع أرضه إلى التاجر بسبب عجزه عن أداء الدين. كما كان العمال يستدينون كذلك بالفائض وبواقع 40% في مدة سنة.
ولقد دخل حسني فريز بيوت الفلاحين بائعاً للحاجات الضرورية ومتجولاً وزائراً، ويقول: ولم أشك من بخل والبيوت ذوات عيش الكفاف، سقفه من قصب، فهو هادئ لا حر فيه في أيام الصيف العادية. مدخل البيت هو غرفة واحدة، يمتد أمامك بضعة أمتار، وينتهي المدخل بجوار المصطبة، وعلوه نحو متر أو أقل. وفي المدخل ينام الدجاج والماشية والدواب وغير ذلك. ثم يقدر أن ثلث البيت مخصص للدواب والضأن والدجاج، ويصف ( النقرة) والدخان المتصاعد، وخشب القف الذي كان له لمعان.
كما يصف في مقالة أخرى ( النور). ويعترف أنه حضر ليلة من لياليهم المشهودة. وكان فيها شاب وكهل وامرأتان احداهما ( نصف) والأخرى في ريعان الصبا ونضارة الفتوة. وكان الكهل والد الفتاة، وأما الشاب فزوج النصف، كانت النورية الصغيرة توزع ابتساماتها وتشع خفة وظرفاً. لما انتهت اللامات قفزت الفتاة، وأخذت ترقص رقصة إغراء، وأبوها ينقر بالدف، والمرأة الأخرى تغني، والزوج يلعب على الربابة، ويميل ذات اليمين وذات اليسار. وما أن أخذت الفتاة شيئاً من الراحة حتى طفقت تنشد لحناً عميق الحزن.
هذه النورية ترقص وتقفز وتتلوى كالأفعى، وتسيل رقة وتتهالك دلالاً وتذوب عذوبة لتعود بالكسب ولا تطلب عن غير النور احترافاً… انها تحتال على العيش، ولا تشعر بالتقاليد، وقد لا تكون عرفتها.
ويخص طبيعة المدينة بعناية وافرة. وأكد في مقالة أنه من أبناء السلط، حيث كانت السلط متصلة بالطبيعة، ببساتينها، وبالضأن والماعز. فقد كان في السلط قطعان كثيرة. ويقول: ولا تزال أجراس الغنم ( المرياع) وهو قائد الماشية، و يوضع في عنقه جرس ليسمعه الراعي أينما اتجه، لا تزال ترن في أذني، وهي تنحدر من الجبل عند الماء عائدة من المراعي، هذا إلى ما هنالك من خيل وبقر وحمير وبغال. وفي أيام الصيف كانت الجمال البدوية المستأجرة تأتي إلى المدينة محملة فحماً. ويضيف: وكان يتاح لي أن أمتطي فرساً لضيف نزل بنا فأمضي به ليرد الماء. وكان النبع وسط المدينة.
ويصور مناظر السلط الطبيعية بجبالها ومياهها وعصافيرها وطواحينها ويقول: كنا نذهب إلى الجبال والأودية ونحن أطفال، نجمع البقول: كالرشاد والعكوب والحليان والشماليخ والبريد… ويقول: والسلط عندي هي الجبال التي تخضر أيام الربيع وتظل خضراء إلى أوائل الصيف، وهي الأودية المختلفة التي تضم السهول الطبيعية الخصيبة والكروم اليانعة… والسلط عندي الينابيع المتدفقة المترقرقة في عين الجادور الفوقا والتحتا وعين الفرخة والديك وعين ضرير وعين المكرفت. .. والسلط عندي البقل الشهي على حافتي بركة العامرية… والسلط عندي الناس الذين لعبت معهم الكورة والغماية والحرامية… والسلط تلك الأهازيج التي يرددها فتيان الفلاحين، وهم من طريقهم الى العرس أو في أثناء عودتهم منه… بعد أن يكونوا قد رقصوا السحجة، وأمامهم ( الحاشي) التي تربط أو توسق، ثم يطلب القاصود إطلاق سراحها بعدما يدفع ثمنها، وما تستحقه من ثناء وهو الزبيب المشهل… والسلط عندي هي ذلك الرجل الكبير الجهوري الصوت، الذي جئته يافعاً لا ند لي ولا ناصر، وانشدته أبيات الحريري:
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
محمـد الهــادي الـــذي عليـه جبريـل هبــط
فقام وأخذ بيدي حتى سوّى ما كنت أعاني منه. وقال لي ونحن في الطريق. أعد عليّ الشعر يا بني.
وفي إحدى مقالاته يؤكد: نعم كنا نسرق ونحن في السابعة والثامنة من العمر، ولم نكن نرى في ذلك حرجاً. نرق ونضع التين في جيوبنا لا في سلة، وكنا لا نتقاسمه بالعدد لأن الحبات مختلفة في الحجم وفي النضج. ويضيف: كانت السلط كثيرة الينابيع، وكذلك كان واديها. وكانت جبالها وأدويتها تخضر أيام الربيع. كما يكون في الجبال ( نقرات) أي حفر صغيرة في الصخر مملوءة بالماء ومن هنا كَثُرتْ الطيور البرية كالحجل والقنابر. وكانت السلط كثيرة البساتين والكروم فكثر طيرها من السمان والحسون والبلابل والعصافير الدورية وعروس التركمان… وقد سجل ذلك في قصيدته ( اليوبيل الذهبي لمدرسة السلط)، يقول:
اني حفظت زهورها وبقولها وغناء قبرة الربيع الحالي
وحفظت لهجة ذي عرام هازل أو لهجــة المتفخــم الســآل
( ها كيف) أحيانـــاً ألذ بمسعي من ألف أوف رن في الموال
( هاضا اللي جاك) أرى لها ترنيمةً ليست من اللف الهزيل البالي
ويتذكر هرير الكلاب في أحياء السلط، فيتذكر كيف كانت الكلاب الهمل قبل ستين أو سبعين سنه أي في حوالي الثلاثينيات في القرن الماضي تتقاتل بين الأحياء السكينة. وكان قتالها عبارة عن هراش وعواء وقفز وتحريك رؤوس وحركات ذيول، ولا أتذكر، يقول حسني فريز، إنني رأيت عضاضاً مما يدل على أن هذه الاحتفالية كانت سوء تفاهم أو مشروع خصام. في حين أن الناس كانوا يتسلون بقتال الديكة وموت المغلوب فيها.
ومن العادات والتقاليد المتبعة في السلط أن أهلها يقدمون للضيوف إحدى القهوتين، ولكن في أيام الشتاء، اذا كانت الزيارة في الليل، ولقضاء السهرة، جيئ بالخبيصة أو الزبيب من صنع صاحبة البيت. ويقول: يبدو لي أن كل سلطي مغرم بالتين، على الأقل أولئك الذين امتلكوا الكروم التي كان التين يعيش إلى جانب دواليها، بل لابد للبيت السلطي من تينة أو رمانة.
ويضيف أن السلطية هم أكثر الناس افتخاراً بعنبهم، لوناً وطعماً ورقة في القشرة، وفي البذرة التي ترى في الحبة خلف القشرة. ولبراعة بعض الزبيب سموه ( بنات الشام) ومن عادات السلطية أن كل واحد يضع تبغة في جيبه عند الزيارة. وإذا كان تبغ أحدهم رديئاً أو سيئاً، فهو يسأل مثلاً: شو تتنك يا ابو العبد؟ فيقدم ابو العبد علبة تتنه ويقول: هاك ضوق. وبعد أن تعلبت السجاير، وأصبح لكل نوع اسم لم يكن جائزاً السؤال عن النوع، بل يفتح الواحد منهم العلبة ويقدم السيجارة للسائل.
وعندمايتحدث عن لهجة السلطية ينحاز إليها، لقد سمعها وتحدث وكتب بها شعراً ويقول: أكثر اللهجات أترأ فيّ هي السلطية، تليها اللهجة الكركية… ويضرب في ذلك بعض الأمثلة، مثل: يا (قريدي) و(يا غبصة ) و(أفا) و(هاضا اللجاك )و(شي غاد) و(يا حليلك يا لعرس.).. وغير ذلك.
واهتم حسني فريز بإظهار التراث الشعبي، فتحدث عن مفعول السيرة الشعبية والغناء ومضافة ابو محمود التي ذاع صيتها، والألعاب الشعبية كالكورة والكعاب وقيني وقيني والركض بين الأحباء…
ومما يسجله كذلك ( الهوشات) فقد كان بين أحياء السلط كالجدعة ووادي الأكراد وحارة الخضر والسلالم حرابات وخصومات ومفاخرة. وبين أطفال الجدعة وأطفال وادي الأكراد تقوم خصومات، حيث يجتمع عشرات من هذا الحي ويافعيه ويتاجزوا مثلهم من أبناء الحي الآخر بالمقاليع. وإذا التقى الفريقان يأخذان ( بالمرافة) وكانت تسمى ( الدرو ). وكان أبناء الحي الواحد يلعبون الكرة في الطريق أو على ظهور الحيطان.
ويتحدث عن تقاليد المنسف وما تحتاجه ليكون حسب الأصول، وكيف كان الأكلة جلوساً، مثل أن يوضع على رافعات حديدية. وتجلس الفئة الأولى على نحو خاص وتأكل، وأهل الفئة الثانية ينتظرون الدور خلفهم. وتسمع من المنتظرين من يقول: اقعد وراه واسأل عن خاله، فيتناول الآكل قطعة لحم لا تقل عن نصف أوقية أو أوقية ويعطيها لمن ندبه أو ناداه.
كما يتحدث عن العادات والتقاليد المصاحبة للأعياد، عند الكبار والصغار. فمن طقوسه ارتداء الأطفال الملابس الزاهية، وقروش قليلة من المعايدات، وأكل الحلوى، ومنها الملبَّس والراحة وركوب المراجيح… وللكبار لباس الجديد والتأنق وزيارة القبور، وتقديم التهاني للإخوان والأخوات والأصدقاء والجيران.
كما يسجل بعض القيم والعادات والتقاليد المصاحبة للموت. حيث تقوم النساء بندب الميت، فيذكرون ما يناسبه من المحاسن والصفات. فإذا وصفته إحداهن بما لي فيه أو ما أثر عنه أعرضن عنها وألزمنها السكوت. ثم يبين كيف كان يحتفي الآباء بالأموات، وما يولم له، وما تتنفذ له من وصايا وكانوا يكرمون من كان يلوذ به من الأهل والأصدقاء إكراماً له، ويتخذون المناسبات لتوزيع الصدقات، ولا ينسونها في الأعياد وزيارته في خميس الأموات، والكعك الذي يوزع في ذلك اليوم على المحتاجين.
ويستمر في الحديث عن العادات والتقاليد والأعراس التي شاهدها في المدينة. وفي مجال العادات الخاصة بالأعراس، فقد حضر عرساً لجيرانه الأرمن، وكانوا أناساً عاديين، منهم البستاني والطحان في مطحنة وصانع الأحذية والحداد والصائغ. وكان بينهم عواد وكمنجاتي ومن يغني بصوت حنون، وكان الغناء باللغة التركية. وكان في العرس فتاة ساحرة في عيني اليافع، فامتزج النغم بجمال الفتاة فتركه حالماً.
ويتحدث عن الأعراس عند الفلاحين والعمال في المدينة. ومن عادات الأعراس عند الفلاحين أن يقدم للعريس نقوط من النقود أو أكياس السكر والأرز وحب القهوة النيئ، فإن ذلك يجمع ويباع وينفق على بعض متطلبات الحياة الجديدة. وعند الفلاحين عادة محببة تدل على التعاون، وتكون على النحو التالي: جسلة، ويذكر اسم المتبرع، وما يتبرع به، فيقول الرجل الذي يجلس الى جانب العريس: خلف الله على فلان الكذا. ويكون ما قدمه ديناً مؤجلا لأيام الحصاد.
وزواج الحراث الفقير مثلاً يكون عبر سنوات الكفاح، فهو يخطب ابنة معلمه، أي صاحب الأرض، فإذا اتفق على المهر، أخذ الخطيب يورد أولاً بأول ما اتفق عليه. وأكثر المهر يأكله ابو الخطيبة. والحراث عادة بأخذ ربع الناتج.
ثم يتحدث عن مراسيم العرس الذي غالباً ما يكون في الصيف. وتقام الاحتفالات في ساحة البيت أو بين الكروم. وفي السجعة يغني السامر، وتنزل فتاة أو أكثر أو رجل وفتاة… الى الساحة للرقص. ويظهر لكلاهما ملثماً. وقد تستمر الاحتفالات ثلاثة أيام. وفي يوم الزفاف يكون حمام العريس والزفة والغداء، والذهاب لإحضار العروس.
كما يصف أعراس العمال وأهل الصنعة وأصحاب الحوانيت. وأعراسهم تكاد تتشابه. فأهل العريس من النساء يتخيرن العروس. فإذا تم الاتفاق على المهر، وتعيّن موعد الزفاف فإن العريس كان يتفق مع حلاق، ثم الحمام البلدي ويدعو رفاقه، وفي آخر النهار يكون قد هو وبعض خاصة عند صديق أحد قريب. وهناك يلبس ثياب العرس، وتسمى ( التلبيسة). وقبل العشاء تبدأ زفة العريس من مكان التلبيسة إلى داره، حيث تحتفل النساء بالعروس. وعندما يدخل المكان تتجلى العروس أي ترقص أمام العريس، ثم تجلس إلى جانبه وقتاً ثم ينصرف العروسان إلى المخدع.
والزفة هي ما يلفت النظر. حيث يردد الشباب وراء الحادي كلمات تتضمن مقطع ( يا حلالي يا مالي) ويدور معظم الغناء حول الغزل. وعندما تقف الزفة تحت بيت رجل بارز، الذي عادة ما يخرج ويرش على المحتفلين العطر، أو بعض أنواع من السكاكر. وتظل الزفة تمشي ببطء حتى تصل إلى بيت العريس. ثم ينساب إليه النقوط ولا يختلف عن نقوط العرس الفلاحي.
وفي مقالة له يقارن بين حلويات زمانه وحلويات الآباء والجديد، فيتحدث على الزلابيا والعوامة والعصيدة. وخبز الشراك المفتوت المرشوش عليه السكر المطحون والسمن (اللزاقيات) كما يعرج على عادات الناس في الأكل، عندما كانوا يأكلون وهم جلوس على الأرض، فيصفون صحون الطعلم على طبق القش، المصنوع محلياً، وعلى (الطبلية) وهي مسطح مستدير، يقوم على قواعد خشبية، خفيفة الحمل، ترتفع عن الأرض نحو ربع متر. والغداء في أيام الشتاء، العد المجروش أو شوربة العدس والمجدرة والزهرة واليخني بالأرز، وقد يأكل بعض النا اللحم مرة واحدة في الأسبوع، وأكله مدار فخر بين نساء العمال. وهناك الرشوف. وطعام الصباح الشاي والزعتر المدقوق مع السمسم والسماق.
والنار إحدى وسائل التدفئة. وهي أن يحصل الطفل أو الطفلة تنكة يربط بها سلك من نصف طرفيها المتقابلين. ويذهب إلى ( الفران) عند غروب الشمس، ولاسيما عندما ما يريد الخباز أن يغلق الفرن، ويخرج حوالي نصف كيلو جمر، ويسكبها في نصف التنكة الأولى، ثم الثانية إلى أن ينتهي الجمر.
ويخص الخبز بعناية فاقت عنايته أي موضوع آخر، إذ تكرر ذكره الحميد في أربع مقالات بحيث أصبحت مفردات الخبز والقمح والعجين من أكثر المفردات تدوالاً، وتحدث عنها برومانسية محببة وقد وصف وجه الفتاة التي تعجن وشعرها وصدرها. ويديها اللتين كانتا تضغطان على العجين، وهي ترفعه وتلقى به في ( اللجن)، ثم تغطيه بطبق القش. ويتحدث عنه باعتباره عماد الطعام، ويورد بعض الأمثال، من مثل: خبز وزيت تشبعين في البيت، وكذلك خبز حاف يعرض الكتاف، وكل دعكه بكعكة. ويصف كيف كان الناس يحتفلون بتصويل القمح وتنقيته من الزوان والحصى. ثم يخزن ليتم طحنه أولاً بأول. وجاء في المثل: ان كنتي شقية كلي خبزاتك نقية.
وتغزل بخبز الطابون والشراك واللزاقيات. وأشار إلى رائحة خبز الطابون التي هي أطيب من العطر. ويشبه الخبز بالوجه الضاحك، والوجه اليابس بأنه يضحك للرغيف الساخن ثم يقارن بين خبز الطابون والخبز الذي نأكله الآن. وهو ليس من قمح بلادنا. ويقول: أكلت من طابون السلط، وأكلت أحسن خبز عربي في مدينة فاس، ومثله في عجلون، ولاحظت أن طعمها تقارب ويقول في بعض شعره:
سقا الله يوم انروح ونقيل بالعريشة
نوكل بيها خبز اشراك ونغمس بمرية
ومن أنواع الخبز: خبز المله الذي ينضج في الرماد الحار، وكذلك العويصة الذي يخبز دون أن يختمر ويلجأ اليه مثلاً من ينتظر أن يطحن قمحه في الطاحونة التي تدار بالماء، إذا كان دوره بعيداً.
والتعاون سمة بارزة في مجتمع القرى ومجتمع السلط. وقد رصد حسني فريز هذه الظاهرة، فيقول إن الجارات كن يجتمعن عند الضحى أو العصر ليشربن القهوة ويدخن الغلايين ذوات القصبات الطويلة فيتحدثن ويشربن القهوة. ويتناول الأزواج ممن اتصفوا بالبذاءة والبخل والقسوة والمزاج السيء وكل ذلك متولد من القاعدة التي يؤمن بها الرجل، وهي: كلما نبت للمرأة رأس وجب كسره، وأنه ينبغي أن لا يؤمن جانب المرأة، إذا هي عاشت في بحبوحة نفسيّة وجسدية، وأن المرأة يمكن الاستغناء عنها واستبدالها بغيرها.
ويرصد فريز بعض أشكال هذا التعاون، فإذا غسلت إحداهن ساعدتها واحدة من الجارات أو أكثر، وإذا طبخت إحداهن، وكانت الجارة غائبة ترسل لها صحناً، فهن إذن يتساكبن. ويتهادين فاكهة الصيف كالعنب والدبس والزبيب ورب البندورة والتين، وإذا أراد احداهن مراجعة الطبيب تركت ابنها عند الجارة لتعتني به.. وكل شيء قرضه ودين حتى دموع العين، وقد وصل التعاون بين الجارات حداً أنهن يساعدن بعضهن في كنس البيوت والتقطيب والترقيع فضلاً عن رضاعة الأطفال، حتى إلى أن أوصت ابنها عندما كبر أن لا يخطب من بنات الجيران لأنهن في حكم الأخوات.
ويقدم حسني فريز بعض صور للنساء، فيقول: كانت المرأة جاهلة ومحجبة، معتقدة أن سفور الوجه معصية لله. ويقول: وطالما رأيت عجائز محجبات بلغن السن التي حنت ظهورهن، ولا ترى الدنيا إلا من خلال المنديل الأسود. وسمع أن عروساً دخلت إلى بيت الزوجية، وعاشت فيه حتى شابت، ولم تخرج منه إلا إلى القبر. صح الخبر أم لا، فإنه يدل على الرعب والتسلط اللذين تعيش فيهما الزوجة طائعة، ويعيش فيهما الرجل خائفاً على زوجته، فكلاهما سجين.
ويذكر كيف كانت المرأة تلد في البيت، وتقوم الداية بما ينبغي، وتقيم في البيت وكأنها عضو في الأسرة قبل الميلاد بأيام وبعد الميلاد بأيام.
وفي كل ما كتبه حسني فريز كان يؤمن بالحرية للرجل والمرأة، وكان يسعى إلى خلق واقع تحيط به شروط الحياة الكريمة، أساسها التعليم. وظل هذا الهاجس الفكري يلح عليه؛ لذلك حمل مشروعه مجموعة من المبادئ التي أسقطها على الرواية والشعر والمسرحية والمقالة. وكتبه تمثل مرحلة ولادة الرواية والقصة القصيرة والشعر الرومانسي، وهي تمثل مرحلة التحول الكبرى من النسق التقليدي إلى النسق المتجدد.
الكاتب:
أ. د هاني العمد